لقد كثر اللغط في الآونة الأخيرة، وتعددت الأصوات بين مؤيد ومعارض للقاحات، وتناقلت المنصات دعاية تثير الخوف أكثر مما تنير الوعي، حتى غابت الحقيقة بين صخب الشائعات وارتباك الناس بين نعم ولا. ومع هذا الضجيج يبقى العلم هادئا، واثق الخطى، يحمل في يده البرهان لا الادعاء، ويقول بلغة لا تعرف الزيف أن اللقاح حياة، وأن الوقاية ليست خيارًا بل واجبًا إنسانيًا وأخلاقيًا.
ومن بين اللقاحات التي دار حولها الجدل لقاح الورم الحليمي البشري، جسر الأمان بين اليوم والغد، لا لأنه يمنح الجسد مناعة فحسب، بل يمنح الأسرة طمأنينة، والمجتمع أمانا، والوطن أجيالا أكثر قوة وثقة بالحياة. إنه قرار وعي يربط حاضر الوقاية بمستقبل خال من الألم.
هذا اللقاح ليس إبرة تغرز في ذراع فحسب، بل وعدًا صغيرًا بمستقبل أكبر من الخوف. إنه حكاية علم غلب الصمت، ورسالة حب صادقة من الأهل لأبنائهم بأنهم لن يتركوا المرض يختبر صبرهم، ولن يسمحوا للشائعة أن تسرق منهم ثقتهم بالعلم.
فيروس الورم الحليمي البشري ليس مرضًا جديدًا ولا طارئًا، بل زائرًا خفيًا يتسلل إلى الخلايا دون ضجيج، يزرع فيها بذور السرطان التي لا تظهر إلا بعد أعوام. لكنه يهزم قبل أن يبدأ، متى ما سبقته المعرفة واللقاح. فالدراسات أثبتت أن التطعيم في سن مبكرة، بين التاسعة والرابعة عشرة، يوفر حماية تتجاوز تسعين بالمائة من الإصابات المسببة للسرطان. وهذه النسبة ليست رقما في تقرير، بل تسعون حياة من كل مائة كتبت لها النجاة لأن هناك من آمن بالعلم أكثر من الخوف.
ومع ذلك، لا يزال الحياء يختبئ خلف الجهل، والخوف يسكن بعض القرارات، كأن الوقاية تخدش بالحديث عنها. لكن الحقيقة أن الصحة لا تعرف الخجل، والوقاية لا تحتاج إذنا. فالتطعيم ليس دعوة للسلوك، بل حصنًا من الوعي، وجدارًا يقام قبل أن تطرق الأبواب على الحياة.
إن لقاح الورم الحليمي البشري فعل حب قبل أن يكون قرارًا طبيًا. إنه وثيقة أمان يوقعها الآباء والأمهات لأبنائهم، وشهادة حياة مكتوبة بلغة العلم لا بلغة الخوف. هو رسالة من كل أم تخاف على ابنتها، ومن كل أب يريد لابنه عمرًا بلا وجع.
هذا اللقاح ليس قضية خلاف، بل قضية وعي ومسؤولية. إنه نداء من الوطن إلى أبنائه أن يختاروا الحياة، وأن يثقوا بالعلم لا بالشائعة. فالعقل الذي يهاب الإبرة قد لا يدرك أنه يفر من جرح صغير إلى جرح لا يشفى.
فلنصغ إلى صوت الحكمة لا إلى صدى الخوف، ولنمنح أبناءنا حقهم في الأمان قبل أن تمنحهم الحياة اختبارها الأصعب. فجرعة اليوم قد تكون نجاة الغد، وقرار الوعي اليوم هو جسر الأمان الذي يربط بين حاضر واع ومستقبل خال من الألم.
نقي أبناءنا اليوم… لنؤمن مستقبلهم غدا

خالصة الصلتية
اختصاصية أولى تثقيف صحي ورئيسة قسم الابتكار بمركز ضمان الجودة